مقالات

مصطفى الفقي يكتب: أحزان السودان.. المشهد العام يسوده الاكتئاب غما على القتلى والخسائر الفادحة

لست أدرى أهى أحزان السودان وحده أم هى أيضا أحزان العالمين العربى والأفريقى؟ بل والإسلامى كذلك، إنها أحزان العالم المعاصر حين تتعرض دولة كبيرة تعد بوابة العرب إلى أفريقيا لما جرى ويجرى فيها من صراع دموى على السلطة وعدوان على المدنيين والأبرياء، وتحطيم للبنية التحتية للدولة، وتمزيق وحدة قواتها المسلحة، فالسودان الذى كان أكبر الدول الأفريقية مساحة، ومن أكثرها ثراءً فى المعادن النادرة والإنتاج الزراعى، الذى كان يمكن أن يحيل ذلك البلد الواسع إلى سلة للحبوب الغذائية لعدد من الدول العربية والأفريقية، إن هذا البلد صاحب التاريخ الطويل يصبح مسرحا لأحداث لم تخطر على بال أكثر المتشائمين من قبل، فمن ذا الذى كان يتصور أن تتحول شوارع الخرطوم والمدن السودانية الكبرى إلى ساحات للقتال وأن تتعرض المناطق المأهولة بالسكان لطلقات المدافع وقذائف الطائرات، إننى أظن أن ما جرى فى السودان يثير عددا من الملاحظات أسوقها فى ما يلى:
أولا: أزعم (على رغم أننى لا أستسلم لنظرية المؤامرة بالكامل) أن أحداث السودان ليست منشِئة ولكنها كاشفة للصراع المحموم والمكتوم فى أعماق هذه المنطقة من العالم، فلا شك أن ما جرى ضرب السودان فى مقتل ولم يترك منتصرا أو مهزوما، ولكنه واجه الجميع بهزيمة قاسية وعملية تحطيم ذاتى لا تبرير لها ولا تفسير.
ثانيا: الأحداث الأخيرة فى السودان تشير بجلاء إلى التغيرات الجديدة التى طرأت على مفهوم السيادة، وكيف أن الصراع حولها يمكن أن يمزق الدول ويقسم الشعوب، ويفتح باب الجحيم على الأمة بالكامل، إن هذا البلد لم يكن ينقصه مشكلات جديدة إذ دفع فاتورة غالية قبل الاستقلال وبعده، وتعرض لانقلابات عسكرية متتالية، وحكام فرطوا فى وحدته الإقليمية وسلامة أراضيه، حيث وقفت مؤسسات غربية معادية للسودان والعروبة وأفريقيا وراء ما جرى لذلك البلد العظيم ثقافيا المتميز فكريا، ولا ننسى أنه سودان 21 أكتوبر 1964، وسودان الإطاحة بنميرى 1985، وسودان الدورات المتتالية من الحكم العسكرى والحكم المدنى الديمقراطى بشكل تابعناه جميعا على امتداد العقود الماضية، إنه سودان دولة الأنصار والختمية الذى عاش سنوات طويلة قلبا للدولة المصرية السودانية، واستطاع أن يكون عمقا استراتيجيا يمتد من حوض النيل إلى حوض البحر المتوسط، إنه سودان المفكرين والأدباء والشعراء، سودان صديقى الراحل الصادق المهدى الذى لو كان حيا الآن لكانت له وجهات نظر وإمكانات مختلفة لتسوية ما فعله رفاق السلاح ببعضهم بعضا.
ثالثا: أظن أن ما جرى فى السودان موجه إلى دول الجوار أيضا، وفى مقدمتها مصر، حتى يتوارى موضوع سد النهضة، وتحقق إثيوبيا ما أرادت دون معارضة دولية أو إقليمية فضلا عن السعى لإذكاء الحركات الانفصالية، وتشجيع انسلاخ الأقاليم عن جسد الدولة السودانية، ولعل ما جرى ويجرى فى دارفور خير شاهد لما نقول، لذلك فنحن نظن عن يقين أن ما تعرض له السودان أخيرا هو جزء من مؤامرة إقليمية شاملة لتغيير الأوضاع واستبدال المواقف وتحويل المشهد برمته إلى مسرح عمليات جديدة بصورة تؤدى إلى معادلات مختلفة، وتحالفات لم تكن قائمة مع استخدام سرعات متفاوتة فى الحركة، والانتقال المباشر إلى مرحلة تغيير التركيبة الجيوسياسية فى شرق أفريقيا وحوض النيل والامتداد الشمالى للسودان حتى الحدود المصرية، إنها محاولة عبثية عرفناها فى هذه المنطقة من العالم على امتداد السنين.
رابعا: إن الشعب السودانى الذى تحول إلى مئات الألوف من اللاجئين وملايين النازحين هو المستهدف لما جرى وما يجرى وقلوبنا تتمزق من أجل ذلك الشعب الأبى الصبور وهو يدفع فاتورة غالية تبدو موازية لفاتورة اللاجئين من سوريا والنازحين منها خصوصا فى الأقاليم التركية، والأمة العربية تواجه حصارا ضخما يحيط بخصرها من كل اتجاه، فالمشهد مؤلم، وكل يوم تولد مشكلة جديدة وتتفاقم أزمة مختلفة ونجد أنفسنا أمام صدام مختلف مع غياب الديمقراطية عموما وتراجع الوفاق الوطنى فى كثير من الدول العربية، ولو نظرنا إلى دولة مركزية محورية بحجم مصر فسوف نكتشف أنها تتعرض لضغوط من اتجاهات متعددة مع محاولات يائسة لضرب العمل العربى المشترك وتشويه صورته من كل اتجاه.
خامسا: إن محاولة تدويل الصراع فى السودان سوف يكون له مردود سيئ على دول الجوار، إذ إنه فضلا عن اللاجئين والنازحين، فإن تلك الدول المجاورة سوف تدخل فى معادلة الصراع السياسى الجديد الذى تفرزه آليات الموقف المتدهور فى هذه المنطقة الحساسة من ظهير الأمة العربية وقرب منابع النيل، إذ إن دولة مثل مصر مرة أخرى تجد انفجارا على حدودها الجنوبية، واضطرابا على حدودها الغربية، وتوترا دائما على حدودها الشمالية الشرقية، حيث يتساقط القتلى الفلسطينيون يوما بعد يوم، لذلك فإن الرأى الراجح هو أن توسيع دائرة الصراع فى السودان يضر ضررا بليغا بأبنائه وأنا ممن يعتقدون أنه لا يحل مشكلة السودانيين إلا السودانيون أنفسهم، كما أن وراء كل تدخل مصالح مستترة وأهداف خفية ومخططات طويلة المدى، فضلا عن الرغبة فى الاستحواذ على ثروات المنطقة، وتفتيت الباقى من وحدتها التى تعرضت فى العقود الأخيرة لمحاولات تسعى لتمزيقها على دفعات متتالية فى ظل مشكلات مزمنة وأزمات لا تتوقف.
سادسا: إن تمزيق وحدة الجيش السودانى الباسل الذى كان يعد ثالث جيوش أفريقيا من حيث المكانة هو تخريب متعمد، إذ إنه لا يمكن أن يكون له رأسان وقيادتان مهما كانت الظروف، والمؤسف حقا أن تتمكن حركة انفصالية داخل القوات المسلحة من التمرد على القيادة الوطنية التى يجب أن تكون جزءا منها، وليست خصما لها، وكل دولة فى المنطقة أو كيان سياسى يسعى لتنمية هذا الصراع وضرب وحدة الجيش السوادنى، إنما هى محاولة معادية للسودان وللدولة الوطنية فيه، ولا يخالجنى شك أن ذلك الصراع القائم على أرض السودان هو نتيجة طبيعية لصراعات مزمنة بين بعض التيارات الدينية والقوى الأجنبية فى ظل محاولة معروفة للنيل من ثروات السودان ومعادنه النادرة وأراضيه الزراعية الشاسعة، بل إننى اشتم أحيانا رائحة الحقد على السودان على رغم كل ما كان فيه من معاناة، ذلك أن قوى كثيرة لا تريد له أن يتقدم إلى الأمام.
سابعا: لا أتحدث عن نصرة فريق على فريق، ولكنى مؤمن بوحدة الجيش السودانى، ومطالب مثل الملايين غيرى، بإعادة الاعتبار لوحدة السودان وسلامته الإقليمية، مع الحفاظ على جيشه الوطنى، خصوصا وأن هناك إشاعات كثيرة وأقاويل تتردد عن دعم خفى للمتمردين على القوات المسلحة السودانية أو الذين ينالون من قيمتها ومكانتها فى هذه الظروف الصعبة، وإذا كان إيقاف إطلاق النار تحقق، فتلك هى فقط البداية، لأنه لا بد من التئام الجراح وترميم الدولة بمبانيها ومنشآتها ومؤسساتها، خصوصا تلك المشافى المعروفة لدولة السودان الكبير، ولقد تابعنا جميعا محاولات الزج ببعض الدول العربية والأفريقية وتحميلها جزءا من تبعة ما جرى، بينما الأمر لا يبدو كذلك على الإطلاق، بل إن مفاجأة الأحداث تؤكد أن لم يكن هناك من يتوقعها حتى إن سرب الطيران الصغير القادم من مصر لم يكن على علم بما جرى ولا طرفا فيه، على رغم المحاولات الأولى للزج به، ومحاولة النيل من العلاقات الأزلية بين شطرى وادى النيل السودان ومصر.
تلك قراءة مبدئية للمشهد العام فى السودان الحزين على قتلاه والمتأثر بالخسائر الفادحة التى دفعها من إمكاناته التى أهدرت فى إطار مأساته التى لا تزال تمارس آثارها على أرضه الطيبة.

الشروق المصرية

المصدر من هنا

قد يعــجبــك أيضاَ

زر الذهاب إلى الأعلى